في عالم يتسارع فيه التطور وتتلاحق فيه التغيرات، تنحرف بعض القيم والأخلاقيات بطرق تكاد تكون خفية، حتى يُصدم الإنسان بتغيرات عميقة في جوهر المجتمع. ولعلّ من أخطر هذه التغيرات هو النفاق الذي بات يحتل مكانة متزايدة، حتّى أصبح البعض يُنادي بالباطل كأنه حق، ويدافع عن الزيف كأنه صدق. في هذا المقال، نتأمل بعمق كيف أصبح النفاق ينشر جذوره في أركان المجتمع، حتى بات صوت الحق خافتًا ومهددًا بالضياع.
النفاق في ثوب الصدق
لطالما كان النفاق مكروهًا عند الشعوب والمجتمعات التي تؤمن بالصدق كقيمة عليا، لكننا اليوم نعيش مرحلة غريبة، حيث يتخذ النفاق قناع الصدق، ويُظهر صاحبه بمظهر البطل المحارب لأجل الخير والمصلحة العامة، رغم أن دوافعه خفية ومنحازة لمصالح شخصية بحتة. نجد أقلامًا كثيرة تنتقد وتُحذر من الفساد، لكنها في الوقت ذاته تروج لشخصيات أو أفكار تخدم مصالحها فقط. بهذه الطريقة، يغيب الخط الفاصل بين الصدق والزيف، ويصبح النقد وسيلة للتشهير لا للارتقاء، ويصبح الدفاع عن الحق عملًا عبثيًا في جو يخلو من النزاهة.
في عصرنا الحالي، تُستخدم وسائل الإعلام، سواء كانت تقليدية أو حديثة، كمنصات تعلي من شأن أفكار وشخصيات، رغم أن حقيقتها تفتقر إلى القيم والمبادئ. ويكاد المستمع أو القارئ لا يميز أحيانًا بين من ينادي بالحق ومن يدافع عن الباطل، إذ يصبح الباطل مُقنعًا ومبررًا، بينما يُساء للحق ويُضعف صوته. تصبح المظاهر الخارجية هي الحكم، والقدرة على إقناع الجماهير تتفوق على الحقيقة.
النفاق اليوم تجاوز مجرد السلوك الفردي ليصبح نمطًا مجتمعيًا، تلتزم به شريحة كبيرة. وتزداد خطورته عندما يُدرج في الخطاب العام، حيث يتحدث البعض عن “الواقعية” كحجة لتبرير النفاق، و”التكيف مع الظروف” كمبرر لتغيير الحقائق. في هذا السياق، يتحول الحق إلى أمرٍ نسبي يخضع للمصلحة، وتصبح المواقف والمبادئ قابلة للتبديل والتغيير حسب الحاجة.